بقلم /فرج إبراهيم عمرو
أحدثت رواية الكاتبة وفاء البوعيسى للجوع وجوه أخرى ، العديد من ردود الأفعال قبل أكثر من ثلاث سنوات ، فهناك من وصف الكاتبة بالزندقة ، وشن أهل المنبر الديني " الجوامع " حمله قوية ضد هذه الرواية وكاتبتها . وأصبح أمر الحصول على هذه الرواية أمر صعب بعد أن أختفت من المكتبات و الكشاك . وإمتناع الناشر عن إصدار أي طبعة جديدة لهذه الرواية ، وبسبب كثرة ما أثير عن هذه الرواية لازمتني رغبة في قراءتها ، وبعد جهد من البحث عثرالصديق الأستاذ ناصر المزوغي على نسخة من رواية الجوع وزودنا بها مشكورا، والحق يقال شدتني هذه الرواية من عدة جوانب، وخلصت بعد الإنتهاء من قراءتها إلى عدة نتائج . فماشدني فيها هو أسلوب الكاتبة الأدبي الشائق لدرجة تجعل القارئ يصر على الإستمرار في معرفه المزيد عن تفاصيل هذه التراجيدا التي عاشتها الطفلة وفاء البوعيسى بعيداً عن أهلها بسبب علاقات سياسية متوترة ليس لها فيها أي دور ومع ذلك هي من دفعت ثمن هذا الخلاف السياسي، وهي التي لم تكن تفقه معنى السياسية في ذلك الزمن، وكان لهذا الثمن الباهض والمؤلم أثرّ واضح في شخصيتها وكينونتها ، فهي تيتمت وأبويها مازالوا على قيد الحياة ، وأجبرت على الغربة عن الوطن في الوقت الذي كانت فيه في أمس الحاجه للبيت الكبير والصغير ، فعاشت في كنف إمرأة لم تكنٌ لها أي مشاعر من الود ، أوحتى الشفقه على طفلة عزلتها السياسة عن وطنها وحضن أبويها ، بل مارست هذه المرأة ضدها أقسى أنواع الإحتقار و الإهانة والتي لا يمكن أن تمارس حتى ضد سجين سياسي قابع في أحد سجون الحكومات العربية ، وليس بحق طفلة تقطعت بها السبل، فعانت هذه الطفلة كل أشكال الإهمال السياسي، والعائلي، والإنساني ، ولم تكلف مؤسسات الدولة الليبية في ذلك الزمان نفسها عناء حل مشكلة هذه الطفلة ، كما أن عائلتها لم تسع بقصارى جهدها من أجل إسترجاع طفلتها العالقة لأسباب سياسية و ركنت إلى الأمر الواقع ، ولم تحرص الأسرة التي بقيت معها هذه الطفلة في أن تعمل جاهداً بإن تغمر هذه الأمانة الإنسانية بالرعاية الأزمة ، فعانت الإهمال المقتع وأصبحت تتلمس طريق الحياة وحيدة تسرق من أجل أن تعيش ، وتشحد من أجل قوت يومها، وتسكن الشارع هروباً من النظرات المقيته داخل البيت السجن ، وعندما تكونت معالم الأنوثة لديها أصبحت تهرب إلى كل ما يمكنه أن ينسها هذه الهموم والآلام فألقت بنفسها بين أحضان أي أمل يلوح لها من أجل أن تخرج من هذه المعاناة ، فأخرجها الجوع من دينها الإسلامي وإعتنقت المسيحية التي أطعمتها الحلوى و الخبز اليابس " فالجوع كافر" ، وأعطتها شيئاً من الحنان و الأمان المفقود ، فارتمت في أحضان الليل وأهله هروباً من أهل النهار وأساليبهم للإنسانية ، وتعاطت كل مايذهب عنها المعاناة ولكي تنسى كل من سرق طفولتها وسعادتها ، وراحت تبحث عن ذاتها بين أكداس الآلام و المعاناة والقسوة والنسيان ، فأفقدتها هذه الحياة أي معنى للأمومة و الأبوه ويتضح ذلك من خلال إستخدامها عبارات قاسية عند حديثها عن أمها أو عندما وصفت لنا شعورها الفاتر حال سماعها خبر وفاة أمها، والشعور ذاته أحسته نحو أبوها الذي نعتته في جٌل فصول الرواية بالرجل . وقد خلق هذا الواقع منها فتاة جريئة بل في بعض الأحيان متمرده على قواعد المجتمع الإجتماعية فقاومت رغبة أهلها في تزويجها من أبن عمتها، وتزوجت من تريد على طريقتها .
إن ماورد في هذه الرواية من معاناة لايؤخذ من جانب واحد وهو أنه اسلوب يخدش الحياء العام ، وتمرد على عادات و تقاليد المجتمع ، ورده عن الإسلام ، وجرأه زادت عن حدها في بعض فصول الرواية .
إنما يمكننا كمجتمع أن نقرأ الرواية بوجه آخر لكي نعي ونستدرك الأخطاء ، أن الطفلة والفتاة أو الشابه وفاء البوعيسى لم تخلق لكي تمارس هذه السلوكيات التي خالفت من خلالها نظم المجتمع الإجتماعية و الدينية ، لكن الإهمال الذي إرتكب بحقها كطفلة تحتاج إلى الرعاية التي يجب أن يحظى بها أي طفل هو الذي دفعها إلى ذلك ، وعدم الإكتراث الذي يجب أن لايكون مع فتاة في سن المراهقه هو الذي قادها إلى الأماكن التي يجب أن لا ترتادها فتاة من مجتمع مسلم ومحافظ.
أن الخطأ أو العيب ليس فيما سردته الكاتبة في روايتها وأنما كل الخطأ و اللوم يقع على من كان السبب في هذا الواقع سواء أفراد أو هيئات فالكاتبة و بكل جرأة و صراحة سردت لنا ما حدث معها ، ولابد منا كمجتمع أن نعي أن الإهمال و الأساليب التربوية الخاطئة التي يمارسها البعض ضد أطفالهم ، هي التي تدفع الطفل إلى ارتكاب المعاصي و الانحراف ، فالكاتبة صارحتنا بوضوح بحقيقة مشاعرها نحو المجتمع الذي تركها عندما كانت هي في أمس الحاجة إليه . وشهدت على نفسها دون أي تزيف أو تحريف . وعلينا نحن أن نكبر فيها صراحتها غير المتوقعة، ونعمل معاً من أجل دراسة أخطائنا التربوية تجاه أطفالنا الذين مازلنا نتركهم للآخرين من أجل أن يعلموهم أشياء لا نريدها ، وثم نلومهم على هذه الأشياء ، وهم ليسوا السبب الرئيسي في حدوثها.
هذه دعوة من أجل أن تتكاتف الجهود لوضع سياسة تربوية جديدة تتماشى مع العصر وقيم مجتمعنا ، لكي لا يفقد المجتمع هويته ، وكذلك هي دعوة من أجل مراجعة الأساليب التربوية المتبعة في مجتمعنا ، والعمل
على خلق بيئة تكون تربوية جديدة صالحة لتربية الأجيال القادمة.