شهد العالم في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين موجه استعمارية قوية وكبيرة فبعد الحروب الضارية بين تلك الدول والتي استمرت إلى عشرات السنين داخل أوروبا عملت هذه الدول على محاربة بعضها خارج حدود القارة الأوروبية فقام نابليون بونابرت بحملة على مصر عام 1798 م من أجل قطع الطريق التجاري بين بريطانيا والهند وأيضا من أجل الاستفادة من خيرات مصر والمنطقة وكما هو معلوم أن الحملة فشلت ورحل الفرنسيين عن مصر في عام 1801م بعد معركة أبوقيرالبحرية.لكنها سرعت وحركت الشعور الاستعماري نحو المنطقة فبدأت الدول الأوروبية تتسابق في احتلال الوطن العربي فاحتلت فرنسا الجزائر وتونس في أعوام التالية على التوالي 1830م، 1882 م ووسط المغرب عام 1906 م بعد مؤتمر الجزيرة و احتلت بريطانيا مصر عام 1881م وسعت ايطاليا في أن تجد لها مكان في هذه الموجة الاستعمارية الجديدة ولم يبق من دول شمال أفريقيا غير ليبيا وأصبحت تمهد لمطامعها بأفتتاح المدارس في كل من بنغازي و طرابلس لتعليم اللغة الإيطالية وأرسلت الإرساليات التبشيرية للدين المسيحي (( والجدير بالذكر هنا أن البعد الديني كان حاضرا بقوة في تلك الحملة حيث أقيم حفل على شرف الأسطول الإيطالي المتّـجهة إلى طرابلس ، بارك خلاله رجال الدّين البحارة والجنود ووزعوا عليهم الصلبان هدية من البابا . وخير دليل على قوة البعد الديني ما احتوى عليه نشيد الحرب عند الطليان عام 1911 م حيت جاء فيه : يا أمي أنا ذاهب إلى طرابلس الجميلة... لكي أرفع العلم المثلث الألوان. وأقتل تلك الأمة اللعينة... وأمحو لغة القرآن..)). و افتتحت فروعا( لبنك) روما ، وأصبحت القنصلية الإيطالية في مدينتي طرابلس وبنغازي مركزا للنشاط السياسي والدعاية وفى 27 الفاتح (سبتمبر) 1911 م وجهت إيطاليا إنذارا إلى الدولة العثمانية تأخذ عليها فيه أنها أهملت شأن ليبيا واتهمتها بأنها تحرض الليبيين على الرعايا الإيطاليين وتضطهدهم وقبل انتهاء المهلة الممنوحة لتركيا لمعالجة الوضع تحرك الأسطول الحربي الإيطالي متوجها إلى طرابلس وفي 3 التمور (أكتوبر ) من عام 1911 م قصف الأسطول الإيطالي طرابلس . وتخلى الأتراك عن ليبيا منذ الأيام الأولى للحرب وقامت تركيا بعقد اتفاقية ( أوشي لوزان ) مع الحكومة الإيطالية في 15 التمور ( أكتوبر )1912 م وعلى أثر تلك الاتفاقية قام الملك الإيطالي (( فيكتور عمانوئيل الثالث )) بإصدار منشورا يعلن من خلاله خضوع طرابلس خضوعا كاملا للسيادة الإيطالية
وفي اليوم التالي لصدور ذلك المنشور وتحديدا في 18 التمور ( أكتوبر ) من عام 1912 م أصدر السلطان العثماني محمد الخامس فرمان يعلن من خلاله تخلي تركيا عن ليبيا. وبذلك تُرك الليبيون وحدهم يواجهون العدو الغاشم المسلح بأحدث الأسلحة في ذلك الوقت ولكن على قدر أهل العزم تأتي العزائم... وتأتي على قدر الكرام المكارم. فباع الليبيين كل شي من أجل المعركة إلا الوطن والشرف ومنذ الأيام الأولى للاحتلال رسموا الليبيين ملاحم البطولة وكبدو العدو خسائر كبير في الأرواح والمعدات ولم يخل أي بيت من شهيد أو مجاهد، وأمام هذا الستبسال لم يجد العدو من بد إلا الطبش والتنكيل والمعتقلات في كل مكان ومن أشهر تلك المعتقلات معتقل العقيلة الذي استشهد فيه أكثر من عشرين ألف مواطن وخير من وثق تلك المعاناة الشاعر رجب بوحويش في قصيدته المشهورة مابى مرض غير دار العقيلة.. وحبس القبيلة.. وبعد الجبا من بلاد الوصيلة...)) والتي رسم من خلالها مدى الظلم والعسف الذي مارسه المستعمر على الليبيين. وإزاء سياسة البطش والتجنيد الإجباري للقتال في الحبشة وخيانة البعض الذي باعوا الوطن وتحولوا إلى عيون ترصد حركة المجاهدين أثر البعض الهجرة إلى دول الجوار ( مصر، تونس، الجزائر، شمال تشاد، النيجر، السودان ). ورغم ذلك لم يتركهم المستعمر وأعوانه حال سبيلهم بل حاول قتلهم وهم في طريقهم إلى تلك البلدان وأتذكر قول ذلك الشاعر الذي كان مغادرا إلي شمال تشاد مع عائلت ه عندما اعترض طريقة أحد أعوان الاستعمار و طلب منه أن يقرض له شعرا فقال له: قطعوا الرجاء فينا يقطع الله رجاكم...في خير ما رينا كدر لولاكم..)) و لم يدخر الشعب الليبي جهدا للتحرير الأرض واخذ يقدم قوافل الشهداء من أجل الحرية
العلاقات الليبية الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية
أن ما انتهت إليه الحرب العالمية الثانية عام 1945 ألقى بظلاله على ليبيا فاحتلت فرنسا جنوب ليبيا وفرض الإنجليز سيطرتهم على شرق ليبيا والولايات المتحدة أقامت لها قواعد في مناطق مختلفة من بلاد ( وقد شاركت هذه القواعد في العدوان على مصر عام 1967 م ) واستمرت الجالية الإيطالية بالتحكم في النشاط الزراعي والتجاري رغم خسارة بلدهم للحرب حيث ظل الطليان ينظرون إلى ليبيا على أنها امتداد لايطاليا ويحلمون بالعودة إليها سياسيا كلما سنحت الظروف واتضحت تلك الرغبة جليا من خلال ما عرف بمشروع (بيفن – سفورزا ) عام 1949 م الذي كان يهدف إلى تقسيم ليبيا بين بريطانيا وإيطالي ا وفرنسا وحاولوا إضفاء الشرعية الدولية على هذا المشروع من خلال طرحه للتصويت داخل الأمم المتحدة ولولا بعض الشخصيات الوطنية أمثال بشير السعدواي (( هذه الشخصية الوطنية تم نفيها من قبل النظام الملكي البائد حيث توفى في لبنان. ولكن بعد قيام الثورة تم استرجاع رفاته وتكريمه في عيد الوفاء )) وآخرين الذين تصدوا لهذا المشروع واستطاعوا انتزاع استقلال ليبيا في 24 الكانون ( ديسمبر ) 1951 م. لكن النظام الملكي لم يعر حقوق الليبيين التاريخية والآنية ا ي اهتمام، بل تعاون رجالاته مع القوى الخارجية ضد الوطن والمواطن ولم يتصدوا للجالية الإيطالية الإقطاعية في ليبيا وسهلوا دخول الشركات النفط الأجنبية مقابل رشاوى ووضعوا مستشاريهم من الأجانب، واستمرت سيطرة الدول الأجنبية على مقدرات البلاد. ورغم اكتشاف النفط في ليبيا عام 1959 م بقيت ليبيا واحدة من أفقر دول العالم حسب تصنيفات وتقارير الأمم المتحدة في ذلك الوقت. وخلق هذا الوضع حالة من تذمر بين أوساط الليبيين على مختلف شرائح ه وخاصة القوات المسلحة التي أخذت على عاتقها تغيير الوضع القائم عن طريق حركة الضباط الوحدويون الأحرار في الفاتح (سبتمبر)عام 1969 م
العلاقات الليبية الإيطالية بعد الثورة في 1969 م
منذ اللحظات الأولى للثورة تبين الإطار العام للعلاقة مع ايطاليا حيت ورد في البيان الأول للثورة ((.....فانقشع في لحظة واحدة من لحظات القدر الرهيبة ظلام العصور من حكم الأتراك إلى جور الطليان.... لا مهضوم ولا مغبون ولا مظلوم ولا سيد ولا مسيود،.... وهكذا سنبني مجدا ونحي تراثا ونثأر لكرامة جرحت وحق اغتصب. يا من شهدتم لعمر المختار جهادا مقدسا من أجل ليبيا والعروبة والإسلام، ويا من قاتلتم مع أحمد الشريف قتالا حقا......)) من هذه الفقرات التي وردت في بيان الثورة الأول يتضح أن مرحلة الاحتلال الإيطالي وسياسة ايطاليا في ليبيا خلال فترة العهد الملكي كانت حاضرة بقوة في ذهن قيادة الثورة وأنها ( إي قيادة الثورة ) سوف تعمل على مراجعة كل ما سبق في العلاقة مع ايطاليا حتى ترفع الغبن والظلم وتسترجع حقوق سلبت وكرامة جرحت ومن أجل تحقيق هذه المبا ء دي كانت الخطوة الأولى والتي تمثلت في قرار مجلس قيادة الثورة الصادر في التاسع عشر من جماد الأولى عام 1390 هـ والذي نص على إجلاء الجالية الإيطالية الموجودة في ليبيا والتي كان قوامها حوالي 13 ألف مستوطن وكان هولاء يسطرون على العجلة الاقتصادية في البلاد ففي القطاع الزراعي كانت تمتلك هذه الجالية 295 مزرعة تقدر مساحتها بـأكثر من 37 ألف هكتار، وفي المجال العقاري يمتلكون 211 هكتار ارض صالحة للبناء و1702 مسكن، وفي المجال التجاري لديهم 266 متجر و19 مصنع و60 معمل. وعملا بقرار مجلس قيادة الثورة تم الاتفاق مع ايطاليا على أن ترحل جاليتها في السابع من شهر التمور ( أكتوبر ) من عام 1970 م وهو ما حدث فعلا حيث طوى هذا التاريخ مرحلة من العبودية والاستغلال والمذلة التي عانى منها الشعب الليبي على يد هذه الجالية.
وانتقلت قيادة الثورة إلي الخطوة الثانية والتي تمثلت في توثيق مرحلة الجهاد حيث اهتمت الثورة بتأريخ مرحلة الجهاد ضد الاحتلال الإيطالي وأسست مركز جهاد الليبيين في شهر هانيبال ( أغسطس )1977 م، والذي اخذ على عاتقه توثيق تلك المرحلة بكل تفاصيلها وعلى اثر الانتهاء من هذه المرحلة انطلقت الثورة في أبراز ما تعرض له الشعب الليبي من جور وظلم على يد الاحتلال الإيطالي فأحيت جميع معارك الجهاد وكرمت المجاهدين ومن أجل أعطى هذه المرحلة البعد الذي تستحقه عملت الثورة على أنتاج أفلام توثق تلك المرحلة من أبرزها فيلم أسد الصحراء الذي تناول فترة عمر المختار وغيره من الأفلام مثل الشظية وتاقرفت وعملت هذه الأفلام على إبراز الدور البطولي الليبيين وأيضا وحشية المحتل ولم تفوت قيادة الثورة مناسبة إلا وذكرت فيها بتلك المرحلة الاستعمارية وطالبت ايطاليا بضرورة الإفصاح عن مصيرالمنفيين وخرائط حقول الألغام والتعويض والاعتذار، وأكدت على ضرورة تحقيق هذه المطالب من أجل بناء علاقة جديدة قائمة على أسس الأحترام المتبادل وبقت العلاقة بين البلدين خلال الأربعين عاما الماضية رهينة للمطالب الليبية وتعنت ومماطلة الحكومات الإيطالية المتعاقبة. ولكن إصرار القيادة الليبية تميز بالثبات والوضوح مرتكزة في ذلك على عدالة مطالبها ومشروعيتها (( وهذا الإصرار إحقاقا للحق تمثل في شخص القائد معمر القذافي الذي رفض إي تطور ايجابي للعلاقات بين البلدين بدون اخذ المطالب العادلة لليبيين بعين الاعتبار من قبل ايطاليا، بل انه عمل بشكل شخصي على متابعة هذا الموضوع وحث الليبيين على عدم التمهل و أعلن أن يوم 26 التمور من كل عام هو يوم للمنفيين كما رفض زيارة ايطاليا قبل الحل العادل )) . وأمام هذا الإصرار لم تجد الحكومات الإيطالية من سبيل إلا النظر إلى المطالب الليبية بمحمل الجد
العلاقات الليبية الإيطالية بعد اتفاقية الصداقة
تمثل إتفاقية الصداقة التي تم التوقيع عليها في بنغازي في نهاية شهر هينبال (اغسطس ) من قبل قائد الثورة ورئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني والتى من المتوقع المصادقة عليها من قبل المؤتمرات الشعبية الأساسية في ليبيا والبرلمان الايطالي لكي تدخل حيز التنفيذ تطور ايجابي في العلاقات بين البلدين فمن خلال ما ورد في ديباجة تلك الاتفاقية وموادها 23 نستطيع القول أن صفحة جديدة فتحت بين البلدين وأن المستقبل المنظور سوف يشهد تطورا سريعا للعلاقة وان القيادتين حققتا مكاسب سياسية ومادية فايطاليا سوف يكون لها وضع أفضل في مجال الاستثمار داخل ليبيا وان العراقيل التي كانت تضعها ليبيا أمام الشركات الإيطالية سوف ترفع بل أن هذه الشركات سوف تحظى بأفضلية داخل السوق الليبي الواعد في جميع المجالات وهذا الأمر سوف تكون له ردود أيجابية على الاقتصاد الإيطالي.
أما مكاسب الجانب الليبي من هذه الاتفاقية فهي متعددة وكبيرة وهي ما يلي:
- على الصعيد السياسي حققت ليبيا أنجاز على صعيد السياسة الخارجية تمثل في استجابة ايطاليا إلى مطالب ليبيا التي أعلنتها منذ بداية الثورة وأكدت للجميع أن قضية معالجة أثار الاحتلال الإيطالي لليبيا هي مبدأ وغير قابلة للتنازل والمساومات السياسية. أما على صعيد العلاقات الدولية هذا الاتفاقية شكلت سابقة في العلاقات الدولية سوف تبنى عليها الكثيرة من الدول التي تعرضت للاستعمار، وسوف يسجل التاريخ السياسي الدولي هذا السابقة لليبيا، وهي رصيد جديد يضاف إلى الإنجازات الليبية الخارجية السابقة مثل أقامة الاتحاد الإفريقي. والحق يقال أن هذا الإنجاز هو الأبرز في التاريخ المعاصر بالنسبة للدول التي تحررت من الاستعمار.
- أما على البعد المعنوي فليبيا اثبت للعالم أنها دولة رائدة في صنع السوابق على الصعيد الدولي ولديها القدرة رغم صغر حجمها على الساحة الدولية في تحقيق أهدافها التي ترسمها وأنها قادرة على ممارسة الضغط والمناورة السياسية ببراعة وحنكة وسجلت ليبيا نفسها كدولة رائدة في هذا الموضوع وان أي دولة تثير هذا الموضوع في المستقبل لابد أن تسير على خطى ليبيا
- البعد المادي رغم أن هذا الجانب لم يأخذ قدر كبير من اهتمام صانع القرار في ليبيا وتم التركيز على الدلالات الإنسانية والسياسية.إلا أن الجانب الليبي لم يهم هذا الجانب بشكل مطلق، فحرص على ضرورة أن تقوم ايطاليا بتعويض الشعب الليبي ماديا حيث تمثلت هذه التعويضات في خمسة بليون دولار ومستشفي للإطراف الصناعية ومنح دراسية ومرتبات تقاعدية للذين خدموا لدى الحكومة الإيطالية من 1911 م إلى رحيلهم عن ليبيا
- البعد الثقافي حرصت ليبيا على أعطى البعد الثقافي أهمية خاصة للرمزية التي يمثلها هذا الجانب وقد نص هذا الاتفاق في المادة ( 10 ) الفقرة ( هـ ) على ضرورة ترجيع المخطوطات والقطع الأثرية التي قامت ايطاليا بنقلها من ليبيا بإن فترة الاستعمار . ولما لهذا الموضوع من رمزية حرصت الدولة ليبيا أن تصل حورية شحات قبل وصول رئيس وزراء ايطاليا
وختاما أن اعتذار ايطاليا عن حقبة الاستعمار كما أسلفنا سابقة في العلاقات الدولية ونصر كبير للدبلوماسية الليبية وانتصار لكل الشعوب التي عانت من ويلات الاستعمار. ولابد أن يعطى هذا الموضوع القدر الذي يستحقه سياسيا وإعلاميا فهو يوم إقرار الظالم والمعتدى بحقوق المعتدى عليه ونأمل من كل وسائل الأعلام وخصوصا العربية ومراكز الدراسات وحقوق الإنسان والمثقفين والمؤرخين أن يتخذوا من هذه الاتفاقية قاعدة للانطلاق في المطالبة بحقوق شعوبهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق